
من الإنتقادات التي وُجِّهت للفكر الأمازيغي (بشكل ممِلٍّ يدلُّ على أن أصحابه غير مطلعين على ما ينتجه المفكرون الأمازيغ)، أن دُعاة التّمزيغ يركزون اهتمامهم على المشكلة الثقافية واللغوية، التي هي، في نظر أصحاب هذ النقد، تافهة ولا تستحق أن نبذل في سبيل التعاطي معها أي جهد خاص. ومعظم من وجه هذا النمط من النقد للفكر الأمازيغي هم من العُروبيين المُقنَّعين الذين يتسترون بالفكر اليساري لإعطاء بعض المشروعية للهيمنة الأيديولوجية العروبية وصبغها بطابع "الواقع" الثقافي الذي ينبغي أن نعتبر كل نقد له مجرد "أُلْهِيات وترف فكري" منفصل عن هموم "الشعب" ... الشعب الذي فوضوا أنفسهم للحديث باسمه.
سأحاول في هذه المقالة أن أصوغ الخطوط العريضة لتقييم فكري أمازيغي للفكر ا لسوسيو ـــ اقتصادي الماركسي من وجهة نظر المجتمع غير النامي الذي يطمح إلى تحقيق تنمية داعمة للمطالب الإجتماعية الآنية مثل مطلب توفير الشغل للمواطنين وغيرها.
1ـــ الإستغلال والإستلاب
ينبني النقد الماركسي لنمط الإنتاج الرأسمالي على مبدأين أخلاقيين، وهما رفض "الإستغلال" و رفض "الإستلاب". ينطلق ماركس في تحليله لواقع الإستغلال والإستلاب الرأسماليين من فهم "للبضاعة" ينبني على القيمة التبادلية للبضاعة تتحدد بما يُستثمر فيها من عمل. وعليه، فإن المنتوج الصناعي لا يخلق قيمة مضافة بما يملكه الرأسمالي من وسائل إنتاج، بل بما يوظفه العامل من عمل في عملية الإنتاج. وبذلك ف"الإستغلال" هو أن يستأثر الرأسمالي بما ينتجه العمل من قيمة مضافة مستعملا في ذلك قوة العامل "مستغلا" لعدم امتلاك هذا الأخير لوسائل الإنتاج. و"الإستلاب" هو أن لا يتناسب حجم العمل الذي ينتجه العامل مع ما يجنيه من "فائدة" من هذا العمل. فكلما اجتهد العامل في عمله، كلما تبددت قواه وامتص رأس المال ما ينتجه من قيمة مضافة. فغاية الرأسمال، في المجتمع الرأسمالي، هي تضخيم نفسه مهما كانت النتائج. لذلك يصف ماركس الإنسان الرأسمالي على أنه "رأسمال مشخّص".
2ـــ مشاكل التحليل الماركسي
تكمن المشكلة الأولى للتحليل الماركسي في كونه لم يحلل سوى المجتمعات لم يفكر إلا في المجتمعات الرأسمالية التي تراكمت فيها الثروة بشكل يسمح بالتفكير في تدبير "الإستغلال" والإستلاب" بطريقة فعالة. أما المجتمعات التي بقيت في طور إنتاج قبل رأسمالي (الذي يتميز حسب بعض الماركسيين الذين حاولوا تدارك هذه الفجوة النظرية في فكر ماركس, مثل سمير أمين, بضعف البنية التحتية والتضخم الأيديولوجي والتبعية الإقتصادية) والتي لم تنجح في مراكمة الثروة، فلم تستطع تحقيق السّبل التي ينبغي أن تراكم بها الثروة، اللهم إذا أردنا احتساب تعليق لكارل ماركس (كثيراً ما أحرج المفكرين الماركسيين) في إحدى مراسلاته مع إنڭلز يستحسن فيه دور الإستعمار في الدفع بالمجتمعات المتخلفة إلى عتبات التصنيع الرأسمالي التي تقود إلى الثورة على رأسالمال.
المشكلة الثانية هي أن ماركس لم يحلل سوى نوع واحد من الإستلاب وهو الإستلاب السوسيوــــ اقتصادي. فمفهوم "الإستلاب" مفهوم هيڭلي كان يفهم منه هيڭل "اغتراب الروح" عن نفسه. فالعامل يحس بمرور الوقت أنه كلما أنتج أكثر، كلما أضاع نفسه أكثر .. كلما كان أكثر خلقاً في الإنتاج، كلما ضعف مردوده .. إلا أن هذا الإستلاب لا يُخْبَرُ في مجال الإنتاج الإقتصادي فقط بل في كل مجالات التأنسن الأخرى مثل السياسة والثقافة. فقد بين بعض المفكرين الذين كانوا ماركسيين وانفصلوا بعد ذلك عن الماركسية، مثل دوبروي، أن البناء الهرمي للحزب الشيوعي الديكتاتوري في الإتحاد السفييتي سابقا، قد خلق نوعاً من الإستلاب السياسي لدى أعضاء هذا الحزب صاروا معه أشبه ما يكونوا بالعامل الذي لايزيده اجتهاده في العمل إلا تدميراً لذاته. ومن أخطر أنواع الإستلاب أيضا الإستلاب الثقافي مثل هذا الذي تعيشه تامازغا منذ قرون. فالإنسان الأمازيغي (سواء أكان متكلما بالأمازيغية أم بغيرها) طور إحساسا بأنه "غريب" في جغرافيته وبأن لغته لا مكان لها، بطبيعتها، في عالم اليوم، حتى أصبح بعضهم (خصوصا قبل الحراك الثقافي الأمازيغي الأخير) بفعل الضغط الأيديولوجي، يتنكر لهويته، تيموزغا، ويفضل الإرتماء في أحضان التاريخ المُزَوَّر الذي أنتجه المخيال العقيم للأيديولوجية العُروبية الشريرة.
المشكلة الثالثة للفكر السوسيو - اقتصادي الماركسي أنه لم يفكر في آليات إنتاج الثروة بقدر ما فكر في أنماط إنتاجها وطُرُقِ توزيعها .. فالتحدي الرئيس المطروح على المجتمعات الثالثية هو: كيف ننتج "الكثير" الذي لا نملكه من القليل الذي نملكه. والفشل الذريع الذي منيت به الحكومات المتعاقبة على مغرب اليوم، مثلا، مرده إلى عدم توفر هذه الحكومات على كاريزمات تبث روح الإبداع السوسيو - اقتصادي في دواليب الدولة والمجتمع بشكل يجعل الفرد منتجاً ل"لأفكار الجيدة" التي تخلق "المشاريع" الجيدة. حتى إن فكرة "المشروع" لا زالت غامضة في ثقافتنا المغربية المعاصرة بشكل يجعل الأفراد لا يميزونها عن فكرة "النظام" و"التخطيط" وغيرها من المفاهيم التي لا تتضمن بالضرورة معاني الخلق والإبداع.
خلاصة: إننا اليوم أحوج ما نكون لأرغانون للتفكير جديد لا يفصل مظاهر التأنسن عن بعضها البعض بل يربط بينها ربطاً لُحمته هو ما تنغرس فيه هذه المظاهر كلها، أي وجودها ... فالإستلاب واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان ليس مجرد ظاهرة اقتصادية، بل هو، في جوهره، التواء وجودي لا يمكن أن يفهم إلا في ضوء فشل الكينونة الفردية والجماعية في تدبير تصادمها مع وجودها. فالإستغلال، مثلا، ليس مجرد امتصاص للقيمة المضافة من طرف رأس المال، بل هو حالة عدم توازن بين اعتبار الكينونات الأخرى "كينونة" واعتبارها "وجوداً مصمّطاً" يُنْزَلُ منزلة الوسيلة ... بحيث يمكن أن تأخذ حالة عدم التوازن هذه أشكالا متعدّدة قد تتدرج من "استغلال الصداقة" إلى "استغلال" الشعارات الإنتخابية لتحقيق المصالح الآنية".
ومن حسنات الفكر الأمازيغي، بانطلاقه من الثقافة وبتأمُّله في أحوال الإستلاب الثقافي، أنه أقدر من غيره على رؤية تراجيديا الوجود الإنساني في شموله الوجودي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق